الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَوْلُهُ {حم} بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَفَكَّرَ فِي عِبَرِهِ وَعِظَاتِهِ هُدَاهُ وَرُشْدِهِ وَأَدِلَّتِهِ عَلَى حَقِّيَّتِهِ، وَأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، لَا اخْتِلَاقَ مِنْ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا افْتِرَاءَ مِنْ أَحَدٍ {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} يَقُولُ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، إِذَا كُنْتُمْ أَيُّهَا الْمُنْذَرُونَ بِهِ مِنْ رَهْطِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرَبًا {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} يَقُولُ: مَعَانِيهِ وَمَا فِيهِ مِنْ مَوَاعِظَ، وَلِمَ يُنْزِلْهُ بِلِسَانِ الْعَجَمِ، فَيَجْعَلُهُ أَعْجَمِيًّا، فَتَقُولُوا نَحْنُ: نَحْنُ عَرَبٌ، وَهَذَا كَلَامٌ أَعْجَمِيٌّ لَا نَفْقَهُ مَعَانِيَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} هُوَ هَذَا الْكِتَابُ الْمُبِينُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} مُبِينٌ وَاللَّهِ بَرَكَتَهُ، وَهُدَاهُ وَرُشْدَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَإِنَّ هَذَا الْكِتَابَ أَصْلُ الْكِتَابِ الَّذِي مِنْهُ نُسِخَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَنَا لِعَلِيٌّ: يَقُولُ: لَذُو عُلُوٍّ وَرِفْعَةٍ، حَكِيمٌ: قَدْ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، ثُمَّ فُصِّلَتْ فَهُوَ ذُو حِكْمَةٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ الدِّسْتِوَائِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ قَالَ: ثَنَا عُرْوَةُ بْنُ عَامِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَأَمْرَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ، قَالَ: وَالْكِتَابُ عِنْدَهُ، قَالَ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}. يَعْنِي الْقُرْآنَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْهُ نُسِخَ. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} يَعْنِي الْقُرْآنَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْهُ نُسِخَ. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَرْوِي عَنْ عُمْرَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} قَالَ: أُمُّ الْكِتَابِ الْقُرْآنُ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} قَالَ: أُمُّ الْكِتَابِ: أَصْلُ الْكِتَابِ وَجُمْلَتُهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ}: أَيْ جُمْلَةِ الْكِتَابِ أَيْ أَصْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} يَقُولُ: فِي الْكِتَابِ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ فِي الْأَصْلِ. وَقَوْلُهُ: {لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَاهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} يُخْبِرُ عَنْ مَنْزِلَتِهِ وَفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: أَفَنُضْرِبُ عَنْكُمْ وَنَتْرُكُكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ فِيمَا تَحْسَبُونَ، فَلَا نُذَكِّرُكُمْ بِعِقَابِنَا مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ قَوْمٌ مُشْرِكُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} قَالَ: تُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ لَا تُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَوْلَهُ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} قَالَ: بِالْعَذَابِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} قَالَ: أَفَنُضْرِبُ عَنْكُمُ الْعَذَابَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} يَقُولُ: أَحَسِبْتُمْ أَنْ نَصْفَحَ عَنْكُمْ وَلَمَّا تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَفَنُتْرُكُ تَذْكِيرَكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَلَا نُذَكِّرُكُمْ بِهِ، لِأَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ}: أَيْ مُشْرِكِينَ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ رُفِعَ حِينَ رَدَّهُ أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَهَلَكُوا، فَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ عِشْرِينَ سَنَةً، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} قَالَ: لَوْ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَمْ يُؤْمِنُوا لَضَرَبَ عَنْهُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا، قَالَ: الذِّكْرُ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ مِمَّا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَنَهَاهُمْ صَفْحًا، لَا يَذْكُرُ لَكُمْ مِنْهُ شَيْئًا. وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ: أَفَنُضْرِبُ عَنْكُمُ الْعَذَابَ فَنَتْرُكُكُمْ وَنَعْرِضُ عَنْكُمْ، لِأَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ لَا تُؤْمِنُونَ بِرَبِّكُمْ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَتْبَعَ ذَلِكَ خَبَرَهُ عَنِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ قَبْلَ الْأُمَمِ الَّتِي تَوَعَّدَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي تَكْذِيبِهَا رُسُلَهَا، وَمَا أَحَلَّ بِهَا مِنْ نِقْمَتِهِ، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} وَعِيدٌ مِنْهُ لِلْمُخَاطَبِينَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، إِذْ سَلَكُوا فِي التَّكْذِيبِ بِمَا جَاءَهُمْ عَنِ اللَّهِ رَسُولُهُمْ مَسْلَكَ الْمَاضِينَ قَبْلَهُمْ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ "إِنْ كُنْتُمْ" بِكَسْرِ الْأَلِفِ مِنْ"إِنَّ" بِمَعْنَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا إِذْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ مَكَّةََ وَالْكُوفَةِ وَعَامَّةِ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ "أَنْ" بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ"أَنْ"، بِمَعْنَى: لِأَنْ كُنْتُمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ فَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ: فُتِحَتْ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: لِأَنَّ كُنْتُمْ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: مِنْ فَتْحِهَا فَكَأَنَّهُ أَرَادَ شَيْئًا مَاضِيًا، فَقَالَ: وَأَنْتَ تَقُولُ فِي الْكَلَامِ: أَتَيْتُ أَنْ حَرَّمْتَنِي، تُرِيدُ: إِذْ حَرَّمْتَنِي، وَيُكْسَرُ إِذَا أَرَدْتَ: أَتَيْتُ إِنْ تَحْرِمْنِي. وَمِثْلُهُ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ} وَ {أَنْ صَدُّوكُمْ} بِكَسْرٍ وَبِفَتْحٍ. {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} قَالَ: وَالْعَرَبُ تُنْشِدُ قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ؟ أَتَجْزَعُ أَنْ أُذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتَا *** جِهَارًا وَلَمْ تَجْزَعْ لِقَتْلِ ابْنِ حَازِمِ قَالَ: وَيَنْشُدُ؟ أَتَجْزَعُ أَنْ بَانَ الْخَلِيطُ الْمُوَدَّعُ *** وَحَبْلُ الصَّفَا مِنْ عَزَّةَ الْمُتَقَطِّعُ قَالَ: وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَيْتَيْنِ مَا فِي صَاحِبِهِ مِنَ الْكَسْرِ وَالْفَتْحِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: أَنَّ الْكَسْرَ وَالْفَتْحَ فِي الْأَلِفِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قِرَأَةِ الْأَمْصَارِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا تَقَدَّمَ"أَنْ" وَهِيَ بِمَعْنَى الْجَزَاءِ فِعْلَ مُسْتَقْبَلٍ كَسَرُوا أَلِفَهَا أَحْيَانًا، فَمَحَّضُوا لَهَا الْجَزَاءَ، فَقَالُوا: أَقُومُ إِنْ قُمْتَ، وَفَتَحُوهَا أَحْيَانًا، وَهُمْ يَنْوُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَقَالُوا: أَقُومُ أَنْ قُمْتَ بِتَأْوِيلِ، لِأَنَّ قُمْتَ، فَإِذَا كَانَ الَّذِي تَقَدَّمَهَا مِنَ الْفِعْلِ مَاضِيًا لَمْ يَتَكَلَّمُوا إِلَّا بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ"أَنْ" فَقَالُوا: قُمْتُ أَنْ قُمْتَ، وَبِذَلِكَ جَاءَ التَّنْزِيلُ، وَتَتَابَعَ شِعْرُ الشُّعَرَاءِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ} يَا مُحَمَّدُ فِي الْقُرُونِ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَ قَرْنِكَ الَّذِي بُعِثْتْ فِيهِ كَمَا أَرْسَلْنَاكَ فِي قَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ. {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يَقُولُ وَمَا كَانَ يَأْتِي قَرْنًا مِنْ أُولَئِكَ الْقُرُونِ وَأُمَّةٌ مِنْ أُولَئِكَ الْأُمَمِ الْأَوَّلِينَ لَنَا مِنْ نَبِيٍّ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى وَطَرِيقِ الْحَقِّ، إِلَّا كَانَ الَّذِينَ يَأْتِيهِمْ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ نَبِيُّهُمُ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ يَسْتَهْزِئُونَ سُخْرِيَةً مِنْهُمْ بِهِمْ كَاسْتِهْزَاءِ قَوْمِكَ بِكَ يَا مُحَمَّدُ. يَقُولُ: فَلَا يَعْظُمْنَ عَلَيْكَ مَا يَفْعَلُ بِكَ قَوْمُكَ، وَلَا يَشُقَّنَّ عَلَيْكَ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا سَلَكُوا فِي اسْتِهْزَائِهِمْ بِكَ مَسْلَكَ أَسْلَافِهِمْ، وَمِنْهَاجَ أَئِمَّتِهِمُ الْمَاضِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِأَنْبِيَائِهِمْ بَطْشًا إِذَا بَطَشُوا فَلَمْ يُعْجِزُونَا بِقُوَاهُمْ وَشَدَّةِ بَطْشِهِمْ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ بَأْسِنَا إِذْ أَتَاهُمْ، فَالَّذِينَ هُمْ أَضْعَفُ مِنْهُمْ قُوَّةً أَحْرَى أَنْ لَا يَقْدِرُوا عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ نَقَمِنَا إِذَا حَلَّتْ بِهِمْ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَضَى لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِكَ وَلِمَنْ قَبِلَهُمْ مِنْ ضُرَبَائِهِمْ مَثَلُنَا لَهُمْ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ مُكَذِّبِي رُسُلِنَا الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ، يَقُولُ: فَلْيَتَوَقَّعْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ عُقُوبَتِنَا مِثْلَ الَّذِي أَحْلَلْنَاهُ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ أَقَامُوا عَلَى تَكْذِيبِكَ.
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} قَالَ: عُقُوبَةُ الْأَوَّلِينَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} قَالَ: سُنَّتُهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَلَئِنْ سَأَلْتَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ: مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ، فَأُحَدَثَهُنَّ وَأَنْشَأَهُنَّ؟ لِيَقُولُنَّ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ فِي سُلْطَانِهِ وَانْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، الْعَلِيمُ بِهِنَّ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا}. يَقُولُ: الَّذِي مَهَّدَ لَكُمُ الْأَرْضَ، فَجَعَلَهَا لَكُمْ وِطَاءً تَوْطََئُونَهَا بِأَقْدَامِكُمْ، وَتَمْشُونَ عَلَيْهَا بِأَرْجُلِكُمْ. {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} يَقُولُ: وَسَهَّلَ لَكُمْ فِيهَا طُرُقًا تَتَطَرَّقُونَهَا مِنْ بَلْدَةٍ إِلَى بَلْدَةٍ، لِمَعَايِشِكُمْ وَمَتَاجِرِكُمْ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} أَيْ طُرُقًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} قَالَ: بِسَاطًا {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} قَالَ: الطُّرُقُ. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} يَقُولُ: لِكَيْ تَهْتَدُوا بِتِلْكَ السُّبُلِ إِلَى حَيْثُ أَرَدْتُمْ مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْقُرَى وَالْأَمْصَارِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تُطِيقُوا بَرَاحَ أَفْنِيَتِكُمْ وَدَوْرِكُمْ، وَلَكِنَّهَا نِعْمَةٌ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} يَعْنِي: مَا نَزَّلَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنَ الْأَمْطَارِ مِنَ السَّمَاءِ بِقَدْرٍ: يَقُولُ: بِمِقْدَارِ حَاجَتِكُمْ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجْعَلْهُ كَالطُّوفَانِ، فَيَكُونُ عَذَابًا كَالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ، وَلَا جَعْلَهُ قَلِيلًا لَا يَنْبُتُ بِهِ النَّبَاتُ وَالزَّرْعُ مِنْ قِلَّتِهِ، وَلَكِنْ جَعَلَهُ غَيْثًا، حَيًّا لِلْأَرْضِ الْمَيِّتَةِ مُحْيِيًا. {فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مِنْ بِلَادِكُمْ مَيِّتًا، يَعْنِي مُجْدِبَةً لَا نَبَاتَ بِهَا وَلَا زَرْعَ، قَدْ دَرَسَتْ مِنَ الْجَدُوبِ، وَتَعَفَّنَتْ مِنَ الْقُحُوطِ {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: كَمَا أَخْرَجْنَا بِهَذَا الْمَاءِ الَّذِي نَزَّلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الْمَيِّتَةِ بَعْدَ جَدُوبِهَا وَقُحُوطِهَا النَّبَاتَ وَالزَّرْعَ، كَذَلِكَ أَيُّهَا النَّاسُ تَخْرَجُونَ مِنْ بَعْدِ فَنَائِكُمْ وَمَصِيرِكُمْ فِي الْأَرْضِ رُفَاتًا بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهَا لِإِحْيَائِكُمْ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِكُمْ مِنْهَا أَحْيَاءً كَهَيْئَتِكُمُ الَّتِي بِهَا قَبْلَ مَمَاتِكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ}.... الْآيَةَ، كَمَا أَحْيَا اللَّهُ هَذِهِ الْأَرْضَ الْمَيِّتَةَ بِهَذَا الْمَاءِ كَذَلِكَ تُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: أَنْشَرْنَا بِهِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَحْيَيْنَا بِهِ، وَلَوْ وُصِفَتِ الْأَرْضُ بِأَنَّهَا أُحْيِيَتْ، قِيلَ: نُشِرَتِ الْأَرْضُ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا *** يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَالَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَزَوَّجَهُ، أَيْ خَلَقَ الذُّكُورَ مِنَ الْإِنَاثِ أَزْوَاجًا، الْإِنَاثَ مِنَ الذُّكُورِ أَزْوَاجًا {لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ} وَهِيَ السُّفُنُ (وَالْأَنْعَامِ) وَهِيَ الْبَهَائِمُ (مَا تَرْكَبُونَ) يَقُولُ: جُعِلَ لَكُمْ مِنَ السُّفُنِ مَا تَرْكَبُونَهُ فِي الْبِحَارِ إِلَى حَيْثُ قَصَدْتُمْ وَاعْتَمَدْتُمْ فِي سِيَرِكُمْ فِيهَا لِمَعَايِشِكُمْ وَمَطَالِبِكُمْ، وَمِنَ الْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَهُ فِي الْبَرِّ إِلَى حَيْثُ أَرَدْتُمْ مِنَ الْبُلْدَانِ، كَالْإِبِلِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: كَيْ تَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِ مَا تَرْكَبُونَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ تَوْحِيدِ الْهَاءِ فِي قَوْلِهِ: {عَلَى ظُهُورِهِ} وَتَذْكِيرِهَا، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ: تَذْكِيرُهُ يَعُودُ عَلَى مَا تَرْكَبُونَ، وَمَا هُوَ مُذَكَّرٌ، كَمَا يُقَالُ: عِنْدِي مِنَ النِّسَاءِ مَنْ يُوَافِقُكَ وَيَسُرُّكَ، وَقَدْ تُذَكَّرُ الْأَنْعَامُ وَتُؤَنَّثُ. وَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: (بُطُونِهَا) وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: أُضِيفَتِ الظُّهُورُ إِلَى الْوَاحِدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ فِي مَعْنَى جَمْعٍ بِمَنْزِلَةِ الْجُنْدِ وَالْجَيْشِ. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتَ: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظَهْرِهِ، فَجَعَلْتَ الظَّهْرَ وَاحِدًا إِذَا أَضَفْتَهُ إِلَى وَاحِدٍ. قُلْتُ: إِنِ الْوَاحِدَ فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ، فَرُدَّتِ الظُّهُورُ إِلَى الْمَعْنَى، وَلَمْ يَقُلْ ظَهْرَهُ، فَيَكُونُ كَالْوَاحِدِ الَّذِي مَعْنَاهُ وَلَفْظُهُ وَاحِدٌ. وَكَذَلِكَ تَقُولُ: قَدْ كَثُرَ نِسَاءُ الْجُنْدِ، وَقَلَّتْ: وَرَفَعَ الْجُنْدُ أُعْيُنَهُ وَلَمْ يَقُلْ عَيْنَهُ. قَالَ: وَكَذَلِكَ كَلَّ مَا أَضَفْتَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْصُوفَةِ، فَأَخْرَجَهَا عَلَى الْجَمْعِ، وَإِذَا أَضَفْتَ إِلَيْهِ اسْمًا فِي مَعْنَى فَعَلَ جَازَ جَمْعُهُ وَتَوْحِيدُهُ، مِثْلَ قَوْلِكَ: رَفَعَ الْعَسْكَرُ صَوْتَهُ، وَأَصْوَاتَهُ أَجْوَدُ وَجَازَ هَذَا لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا صُورَةَ لَهُ فِي الِاثْنَيْنِ إِلَّا الصُّورَةُ فِي الْوَاحِدِ. وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: قِيلَ: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظَهْرِهِ، لِأَنَّهُ وَصْفٌ لِلْفُلْكِ، وَلَكِنَّهُ وَحَّدَ الْهَاءَ، لِأَنَّ الْفُلْكَ بِتَأْوِيلِ جَمْعٍ، فَجَمَعَ الظُّهُورَ وَوَحَّدَ الْهَاءَ، لِأَنَّ أَفْعَالَ كُلِّ وَاحِدٍ تَأْوِيلُهُ الْجَمْعُ تَوَحِّدُ وَتَجْمَعُ مِثْلُ: الْجُنْدُ مُنْهَزِمٌ وَمُنْهَزِمُونَ، فَإِذَا جَاءَتِ الْأَسْمَاءُ خَرَجَ عَلَى الْأَسْمَاءِ لَا غَيْرَ، فَقُلْتَ: الْجُنْدُ رِجَالٌ، فَلِذَلِكَ جُمِعَتِ الظُّهُورُ وَوُحِّدَتِ الْهَاءُ، وَلَوْ كَانَ مِثْلَ الصَّوْتِ وَأَشْبَاهُهُ جَازَ الْجُنْدُ رَافِعٌ صَوْتَهُ وَأَصْوَاتَهُ. قَوْلُهُ: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: ثُمَّ تَذَكَّرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمُ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْكُمْ بِتَسْخِيرِهِ ذَلِكَ لَكُمْ مَرَاكِبَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ {إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} فَتُعَظِّمُوهُ وَتُمَجِّدُوهُ، وَتَقُولُوا تَنْزِيهًا لِلَّهِ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا الَّذِي رَكِبْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ، مِمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَتُشْرِكُ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُوكُرَيْبٍوَعُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْهَبَّارِيُّ، قَالَا ثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: رَكِبْتُ دَابَّةً، فَقُلْتُ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}، فَسَمِعَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ؛ قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ وَالْهَبَّارِيُّ: قَالَ الْمُحَارِبِيُّ: فَسَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ: هُوَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: أَهَكَذَا أُمِرْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: تَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا الْإِسْلَامَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا فِي خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ ذَكَرْتَ نِعَمًا عِظَامًا، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رِضَى اللَّهِ عَنْهُ، رَأَى رَجُلَا رَكِبَ دَابَّةً، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} يُعَلِّمُكُمْ كَيْفَ تَقُولُونَ إِذَا رَكِبْتُمْ فِي الْفُلْكِ تَقُولُونَ: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وَإِذَا رَكِبْتُمُ الْإِبِلَ قُلْتُمْ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} وَيُعَلِّمُكُمْ مَا تَقُولُونَ إِذَا نَزَلْتُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ جَمِيعًا تَقُولُونَ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْنَا مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَكِبَ قَالَ: اللَّهُمَّ هَذَا مِنْ مَنِّكَ وَفَضْلِكَ، ثُمَّ يَقُولُ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}. وَقَوْلُهُ: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} وَمَا كُنَّا لَهُ مُطِيقِينَ وَلَا ضَابِطِينَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدْ أَقْرَنْتُ لِهَذَا: إِذَا صِرْتُ لَهُ قَرِنًا وَأَطَقْتُهُ، وَفُلَانٌ مُقْرِنٌ لِفُلَانٍ: أَيْ ضَابِطٌ لَهُ مُطِيقٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} يَقُولُ: مُطِيقِينَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (مُقْرِنِينَ) قَالَ: الْإِبِلُ وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أَيْ مُطِيقِينَ، لَا وَاللَّهِ لَا فِي الْأَيْدِي وَلَا فِي الْقُوَّةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} قَالَ: فِي الْقُوَّةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} قَالَ: مُطِيقِينَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} قَالَ: لَسْنَا لَهُ مُطِيقِينَ، قَالَ: لَا نُطِيقُهَا إِلَّا بِكَ، لَوْ لَا أَنْتَ مَا قَوِينَا عَلَيْهَا وَلَا أَطَقْنَاهَا. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلِيَقُولُوا أَيْضًا: وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا مِنْ بَعْدِ مَمَاتِنَا لَصَائِرُونَ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَجَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ لِلَّهِ مِنْ خَلْقِهِ نَصِيبًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ لِلْمَلَائِكَةِ: هُمْ بَنَاتُ اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَ عَاصِمٌ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} قَالَ: وَلَدًا وَبَنَاتٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} قَالَ: الْبَنَاتُ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِالْجُزْءِ هَا هُنَا: الْعَدْلُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}: أَيْ عَدْلًا. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}: أَيْ عَدْلًا. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَتْبَعُ ذَلِكَ قَوْلَهُ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى قَوْلِِهِِمْ ذَلِكَ، فَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ تَوْبِيخَهُ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ مِنْ قِيلِهِمْ مَا قَالُوا فِي إِضَافَةِ الْبَنَاتِ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَذُو جَحْدٍ لِنِعَمِ رَبِّهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِ مُبِينٌ: يَقُولُ: يُبَيِّنُ كُفْرَانَهُ نِعَمَهُ عَلَيْهِ، لِمَنْ تَأَمَّلَهُ بِفِكْرِ قَلْبِهِ، وَتُدَبِّرُ حَالَهُ. وَقَوْلُهُ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُوَبِّخًا هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ وَصَفُوهُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُهُ: اتَّخَذَ رَبُّكُمْ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ، وَأَنْتُمْ لَا تَرْضَوْنَ لِأَنْفُسِكُمْ، وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ. يَقُولُ: وَأَخْلَصَكُمْ بِالْبَنِينَ، فَجَعَلَهُمْ لَكُمْ. {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْجَاعِلِينَ لِلَّهِ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا يَقُولُ: بِمَا مَثَّلَ لِلَّهِ، فَشَبَّهَهُ شَبَهًا، وَذَلِكَ مَا وَصَفَهُ بِهِ مِنْ أَنَّ لَهُ بَنَاتٌ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} قَالَ: وَلَدًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} بِمَا جَعَلَ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: ظَلَّ وَجْهُ هَذَا الَّذِي بُشِّرَ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا مِنَ الْبَنَاتِ مُسْوَدًّا مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ. {وَهُوَ كَظِيمٌ} يَقُولُ: وَهُوَ حَزِينٌ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَهُوَ كَظِيمٌ}: أَيْ حَزِينٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَوَ مَنْ يَنْبُتُ فِي الْحِلْيَةِ وَيُزَيَّنُ بِهَا {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ} يَقُولُ: وَهُوَ فِي مُخَاصَمَةِ مَنْ خَاصَمَهُ عِنْدَ الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ، وَمَنْ خَصَمَهُ بِبُرْهَانٍ وَحُجَّةٍ، لِعَجْزِهِ وَضَعْفِهِ، جَعَلْتُمُوهُ جُزْءَ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ وَزَعَمْتُمْ أَنَّهُ نَصِيبُهُ مِنْهُمْ، وَفِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ مِنْهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْتُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ الْجَوَارِي وَالنِّسَاءَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} قَالَ: يَعْنِي الْمَرْأَةَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ مَرْثَدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، وَقَرَأَ {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} قَالَ: يَعْنِي الْمَرْأَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} قَالَ: الْجَوَارِي جَعَلْتُمُوهُنَّ لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، كَيْفَ تَحْكُمُونَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} قَالَ: الْجَوَارِي يُسَفِّهُهُنَّ بِذَلِكَ، غَيْرُ مُبِينٍ بِضَعْفِهِنَّ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} يَقُولُ: جَعَلُوا لَهُ الْبَنَاتَ وَهُمْ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِهِنَّ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} يَقُولُ: قَلَّمَا تَتَكَلَّمُ امْرَأَةٌ فَتُرِيدُ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِحُجَّتِهَا إِلَّا تَكَلَّمَتْ بِالْحُجَّةِ عَلَيْهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} قَالَ: النِّسَاءُ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ أَوْثَانَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ}... الْآيَةَ، قَالَ: هَذِهِ تَمَاثِيلُهُمُ الَّتِي يَضْرِبُونَهَا مِنْ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ يَعْبُدُونَهَا هُمُ الَّذِينَ أَنْشَئُوهَا، ضَرَبُوهَا مِنْ تِلْكَ الْحِلْيَةِ، ثُمَّ عَبَدُوهَا {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} قَالَ: لَا يَتَكَلَّمُ، وَقَرَأَ {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ الْجَوَارِي وَالنِّسَاءَ، لِأَنَّ ذَلِكَ عُقَيْبَ خَبَرِ اللَّهِ عَنْ إِضَافَةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهِ مَا يَكْرَهُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْبَنَاتِ، وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِحَقِّهِ، وَتَحْلِيَتِهِمْ إِيَّاهُ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْبُخْلِ، وَهُوَ خَالِقُهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَرَازِقُهُمْ، وَالْمُنْعِمُ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ الَّتِي عَدَّدَهَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، فَاتِّبَاعُ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ مَا كَانَ نَظِيرًا لَهُ أَشْبَهُ وَأَوْلَى مِنِ اتِّبَاعِهِ مَا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضِ الْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ"أَوَ مَنْ يَنْشَأُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالتَّخْفِيفِ مِنْ نَشَأَ يَنْشَأُ. وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ (يُنَشَّأُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ مِنْ نَشَّأْتُهُ فَهُوَ يُنَشَّأُ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمُنَشَّأَ مِنَ الْإِنْشَاءِ نَاشِئٌ، وَالنَّاشِئُ مُنْشَأٌ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ"أَوَ مَنْ لَا يُنَشَّأُ إِلَّا فِي الْحِلْيَةِ"، وَفِي"مَنْ" وُجُوهٌ مِنَ الْإِعْرَابِ الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالنَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ يَجْعَلُونَ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوْ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ يَجْعَلُونَ بَنَاتِ اللَّهِ. وَقَدْ يَجُوزُ النَّصْبُ فِيهِ أَيْضًا عَلَى الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ: أَمُ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ أَوْ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ، فَيَرُدُّ"مَنْ" عَلَى الْبَنَاتِ، وَالْخَفْضُ عَلَى الرَّدِّ عَلَى"مَا" الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَجَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ مَلَائِكَتَهُ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ "الذِينَ هُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ" بِالنُّونِ، فَكَأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَجَعَلُوا مَلَائِكَةَ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَهُ يُسَبِّحُونَهُ وَيُقَدِّسُونَهُ إِنَاثًا، فَقَالُوا: هُمْ بَنَاتُ اللَّهِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِحَقِّ اللَّهِ، وَجُرْأَةً مِنْهُمْ عَلَى قِيلِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} بِمَعْنَى: جَمْعُ عَبْدٍ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى قِرَاءَةِ هَؤُلَاءِ: وَجَعَلُوا مَلَائِكَةَ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ خَلْقُهُ وَعِبَادُهُ بَنَاتِ اللَّهِ، فَأَنَّثُوهُمْ بِوَصْفِهِمْ إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنَاثٌ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عِبَادُ اللَّهِ وَعِنْدَهُ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} فَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ"أَشْهَدُوا خَلْقَهُمْ" بِضَمِّ الْأَلِفِ، عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، بِمَعْنَى: أَأَشْهَدَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْجَاعِلِينَ مَلَائِكَةَ اللَّهِ إِنَاثًا، خَلْقَ مَلَائِكَتِهُ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَهُ، فَعَلِمُوا مَا هُمْ، وَأَنَّهُمْ إِنَاثٌ، فَوَصَفُوهُمْ بِذَلِكَ، لِعِلْمِهِمْ بِهِمْ، وَبِرُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ رُدَّ ذَلِكَ إِلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقُرِئَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ، بِمَعْنَى: أَشْهَدُوا هُمْ ذَلِكَ فَعَلِمُوهُ؟ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقَوْلُهُ: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: سَتُكْتَبُ شَهَادَةُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، بِمَا شَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِمْ، وَيُسْأَلُونَ عَنْ شَهَادَتِهِمْ تِلْكَ فِي الْآخِرَةِ أَنْ يَأْتُوا بِبُرْهَانٍ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَلَنْ يَجِدُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَا أَوْثَانَنَا الَّتِي نَعْبُدُهَا مِنْ دُونِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحِلَّ بِنَا عُقُوبَةٌ عَلَى عِبَادَتِنَا إِيَّاهَا لِرِضَاهُ مِنَّا بِعِبَادَتِنَاهَا. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} لِلْأَوْثَانِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} يَقُولُ: مَا لَهُمْ بِحَقِيقَةِ مَا يَقُولُونَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَهُ تَخَرُّصًا وَتَكَذُّبًا، لِأَنَّهُمْ لَا خَبَرَ عِنْدَهُمْ مِنِّي بِذَلِكَ وَلَا بُرْهَانَ. وَإِنَّمَا يَقُولُونَهُ ظَنًّا وَحُسْبَانًا. {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} يَقُولُ: مَا هُمْ إِلَّا مُتَخَرِّصُونَ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}. وَكَانَ مُجَاهِدٍ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، مَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنَا الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} مَا يَعْلَمُونَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- مَا آتَيْنَا هَؤُلَاءِ الْمُتَخَرِّصَيْنِ الْقَائِلَيْنِ لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَا الْآلِهَةَ كِتَابًا بِحَقِيقَةِ مَا يَقُولُونَ مِنْ ذَلِكَ، مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} يَقُولُ: فَهُمْ بِذَلِكَ الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَهُمْ مِنْ عِنْدِي مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، مُسْتَمْسِكُونَ يَعْمَلُونَ بِهِ، وَيَدِينُونَ بِمَا فِيهِ، وَيَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَيْكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: مَا آتَيْنَا هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَا هَؤُلَاءِ الْأَوْثَانَ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَتِهَا، كِتَابًا مِنْ عِنْدِنَا، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: وَجَدْنَا آبَاءَنَا الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَنَا يَعْبُدُونَهَا، فَنَحْنُ نَعْبُدُهَا كَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهَا؛ وَعَنَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}. بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى دِينٍ وَمِلَّةٍ، وَذَلِكَ هُوَ عِبَادَتُهُمُ الْأَوْثَانَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {عَلَى أُمَّةٍ}: مِلَّةٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} يَقُولُ: وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى دِينٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} قَالَ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى دِينٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} قَالَ: عَلَى دِينٍ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {عَلَى أُمَّةٍ} فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ {عَلَى أُمَّةٍ} بِضَمِّ الْأَلِفِ بِالْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْتُ مِنَ الدِّينِ وَالْمِلَّةِ وَالسَّنَةِ. وَذُكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُمَا قَرَأَاهُ"عَلَى إِمَّةٍ" بِكَسْرِ الْأَلِفِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا إِذَا كُسِرَتْ أَلِفُهَا، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُوَجِّهُ تَأْوِيلَهَا إِذَا كُسِرَتْ عَلَى أَنَّهَا الطَّرِيقَةُ وَأَنَّهَا مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَمَمْتُ الْقَوْمَ فَأَنَا أَؤُمُّهُمْ إِمَّةً. وَذُكِرَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: مَا أَحْسَنَ عِمَّتِهِ وَإِمَّتِهِ وَجِلْسَتِهِ إِذَا كَانَ مَصْدَرًا. وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ إِذَا كُسِرَتْ أَلِفُهَا إِلَى أَنَّهَا الْإِمَّةُ الَّتِي بِمَعْنَى النَّعِيمِ وَالْمُلْكِ، كَمَا قَالَ عُدَيُّ بْنُ زَيْدٍ. ثُمَّ بَعْدَ الْفََلَاحِ وَالْمُلْكِ وَالْإِمَّ *** ةِ وَارَتْهُمْ هُنَاكَ الْقُبُورُ وَقَالَ: أَرَادَ إِمَامَةَ الْمُلْكِ وَنَعِيمِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: {الْأُمَّةُ بِالضَّمِّ وَالْإِمَّةُ بِالْكَسْرِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ}. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ الَّذِي لَا أَسْتَجِيزُ غَيْرَهُ: الضَّمُّ فِي الْأَلِفِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَسَرُوهَا فَإِنِّي لَا أَرَاهُمْ قَصَدُوا بِكَسْرِهَا إِلَّا مَعْنَى الطَّرِيقَةِ وَالْمِنْهَاجِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، لَا النِّعْمَةِ وَالْمَلِكِ، لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِأَنَّ يُقَالُ: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى نِعْمَةٍ وَنَحْنُ لَهُمْ مُتَّبَعُونَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَا فِي الْمُلْكِ وَالنِّعْمَةِ، لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ فِي الْمُلْكِ لَيْسَ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْهِ كُلُّ مَنْ أَرَادَهُ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} يَقُولُ: وَإِنَّا عَلَى آثَارِ آبَائِنَا فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِمْ مُهْتَدُونَ، يَعْنِي: لَهُمْ مُتَّبَعُونَ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} يَقُولُ: وَإِنَّا عَلَى دِينِهِمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} يَقُولُ: وَإِنَّا مُتَّبِعُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَاإِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَهَكَذَا كَمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ فَعَلَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ، لَمْ نُرْسِلْ مِنْ قَبِلِكَ يَا مُحَمَّدُ فِي قَرْيَةٍ، يَعْنِي إِلَى أَهْلِهَا رُسُلًا تُنْذِرُهُمْ عِقَابَنَا عَلَى كُفْرِهِمْ بِنَا فَأَنْذَرُوهُمْ وَحَذَّرُوهُمْ سُخْطَنَا، وَحُلُولَ عُقُوبَتِنَا بِهِمْ {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا}، وَهُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} قَالَ: رُؤَسَاؤُهُمْ وَأَشْرَافُهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} قَادَتُهُمْ وَرُءُوسُهُمْ فَى الشِّرْكِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} يَقُولُ: قَالُوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى مِلَّةٍ وَدِينٍ {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ} يَعْنِي: وَإِنَّا عَلَى مِنْهَاجِهِمْ وَطَرِيقَتِهِمْ مُقْتَدُونَ بِفِعْلِهِمْ نَفْعَلُ كَالَّذِي فَعَلُوا، وَنَعْبُدُ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ؛ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَإِنَّمَا سَلَكَ مُشْرِكُو قَوْمِكَ مِنْهَاجَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ فِي إِجَابَتِهِمْ إِيَّاكَ بِمَا أَجَابُوكَ بِهِ، وَرَدَّهُمْ مَا رَدُّوا عَلَيْكَ مِنَ النَّصِيحَةِ، وَاحْتِجَاجِهِمْ بِمَا احْتَجُّوا بِهِ لِمُقَامِهِمْ عَلَى دِينِهِمُ الْبَاطِلِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} قَالَ بِفِعْلِهِمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} فَاتَّبَعُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ، الْقَائِلِينَ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ} أَيُّهَا الْقَوْمُ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ (بِأَهْدَى) إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ، وَأَدَلِّ لَكُمْ عَلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ {مِمَّا وَجَدْتُمْ} أَنْتُمْ عَلَيْهِ آبَائَكُمْ مِنَ الدِّينِ وَالْمِلَّةِ. {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} يَقُولُ: فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَأَجَابُوهُ بِأَنْ قَالُوا لَهُ كَمَا قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا لِأَنْبِيَائِهَا: إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ يَا أَيُّهَا الْقَوْمُ كَافِرُونَ، يَعْنِي: جَاحِدُونَ مُنْكِرُونَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ سِوَى أَبِي جَعْفَرٍ "قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُم" بِالتَّاءِ. وَذُكِرَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ أَنَّهُ قَرَأَهُ"قُلْ أَوَ لَوْ جِئْنَاكُمْ" بِالنُّونِ وَالْأَلِفِ. وَالْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةَ الْمُكَذِّبِينَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَانْتَقَمْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلِهَا مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ بِرَبِّهَا، بِإِحْلَالِنَا الْعُقُوبَةَ بِهِمْ، فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَ عُقْبَى أَمْرِهِمْ، إِذْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} آخِرَ أَمْرِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَ اللَّهِ إِلَامَ صَارَ، يَقُولُ: أَلَمْ نُهْلِكْهُمْ فَنَجْعَلُهُمْ عِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ؟ كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} قَالَ: شَرٌّ وَاللَّهِ، أَخَذَهُمْ بِخَسْفٍ وَغَرَقٍ، ثُمَّ أَهْلَكَهُمْ فَأَدْخَلَهُمُ النَّارَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُهُ مُشْرِكُو قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَكَذَّبُوهُ، فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ كَمَا انْتَقَمْنَا مِمَّنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلِهَا. وَقِيلَ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} فَوَضَعَ الْبَرَاءَ وَهُوَ مَصْدَرٌ مَوْضِعَ النَّعْتِ، وَالْعَرَبُ لَا تُثَنِّي الْبَرَاءَ وَلَا تَجْمَعُ وَلَا تُؤَنِّثُ، فَتَقُولُ: نَحْنُ الْبَرَاءُ وَالْخَلَاءُ: لِمَا ذَكَرْتُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَإِذَا قَالُوا: هُوَ بَرِيءٌ مِنْكَ ثَنَوْا وَجَمَعُوا وَأَنَّثُوا، فَقَالُوا: هُمَا بَرِيئَانِ مِنْكَ، وَهُمْ بَرِيئُونَ مِنْكَ. وَذُكِرَ أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: "إِنَّنِي بَرِيءٌ" بِالْيَاءِ، وَقَدْ يُجْمَعُ بَرِئٌ: بَرَاءٌ وَأَبْرَاءٌ. {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} يَقُولُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا مِنَ الَّذِي فَطَرَنِي، يَعْنِي الَّذِي خَلَقَنِي {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} يَقُولُ: فَإِنَّهُ سَيُقَوِّمُنِي لِلدِّينِ الْحَقِّ، وَيُوَفِّقُنِي لِاتِّبَاعِ سَبِيلِ الرُّشْدِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ}... الْآيَةَ، قَالَ: كَايَدَهُمْ، كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ رَبُّنَا {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فِلَمْ يَبْرَأُ مِنْ رَبِّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} يَقُولُ: إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ"إِلَّا الَّذِي خَلَقَنِي". حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} قَالَ: خَلَقَنِي. وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَجُعِلَ قَوْلُهُ: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} وَهُوَ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةٌ بَاقِيَةٌ فِي عَقِبِهِ، وَهُمْ ذَرِّيَّتُهُ، فَلَمْ يَزَلْ فَى ذَرِّيَّتِهِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْكَلِمَةِ الَّتِي جَعَلَهَا خَلِيلُ الرَّحْمَنِ بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالتَّوْحِيدُ لَمْ يَزَلْ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَقُولُهَا مِنْ بَعْدِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} قَالَ: التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ، وَلَا يَزَالُ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ وَيَعْبُدُهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْكَلِمَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ فِي عَقِبِهِ اسْمُ الْإِسْلَامِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فَى قَوْلِهِ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} فَقَرَأَ {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ: جَعَلَ هَذِهِ بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ، قَالَ: الْإِسْلَامُ، وَقَرَأَ {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} فَقَرَأَ {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي مَعْنَى الْعَقِبِ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {فِي عَقِبِهِ} قَالَ: وَلَدِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} قَالَ: يَعْنِي مَنْ خَلَفَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {فِي عَقِبِهِ} قَالَ: فِي عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ آلُ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْعَقِبُ: الْوَلَدُ، وَوَلَدُ الْوَلَدِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ {فِي عَقِبِهِ} قَالَ: عَقِبُهُ: ذَرِّيَّتُهُ. وَقَوْلُهُ: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يَقُولُ: لِيَرْجِعُوا إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ، وَيَثُوبُوا إِلَى عِبَادَتِهِ، وَيَتُوبُوا مِنْ كُفْرِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}: أَيْ يَتُوبُونَ، أَوْ يَذَّكَّرُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: (بَلْ مَتَّعْتُ) يَا مُحَمَّدُ (هَؤُلَاءِ) الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ (وَآبَاءَهُمْ) مِنْ قَبْلِهِمْ بِالْحَيَاةِ، فَلَمْ أُعَاجِلْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالْحَقِّ: هَذَا الْقُرْآنَ: يَقُولُ: لَمْ أُهْلِكْهُمْ بِالْعَذَابِ حَتَّى أَنْزَلْتُ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، وَبَعَثْتُ فِيهِمْ رَسُولًا مُبَيِّنًا. يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَرَسُولٌ مُبِينٌ}: مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالْمُبِينُ: أَنَّهُ يُبِينُ لَهُمْ بِالْحُجَجِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ مُحِقٌّ فِيمَا يَقُولُ {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَمَّا جَاءَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَرَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ} يَقُولُ: هَذَا الَّذِي جَاءَنَا بِهِ هَذَا الرَّسُولُ سِحْرٌ يَسْحَرُنَا بِهِ، لَيْسَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ {وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} يَقُولُ: قَالُوا: وَإِنَّا بِهِ جَاحِدُونَ، نُنْكِرُ أَنَّ يَكُونَ هَذَا مِنَ اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} قَالَ: هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ قَالُوا الْقُرْآنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَذَا سِحْرٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ مِنْ قُرَيْشٍ لَمَّا جَاءَهُمُ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: هَذَا سِحْرٌ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَهَلَّا نَزَلَ عَلَى رَجُلٍ عَظِيمٍ مِنْ إِحْدَى هَاتَيْنِ الْقَرْيَتَيْنِ مَكَّةَ أَوِ الطَّائِفِ. وَاخْتُلِفَ فِي الرَّجُلِ الَّذِي وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ، فَقَالُوا: هَلَّا نَزَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَلَّا نَزَلَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغَيَّرَةِِ الْمَخْزُومِيِّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، أَوْ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيِّ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ؟.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} قَالَ: يَعْنِي بِالْعَظِيمِ: الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْقُرَشِيَّ، أَوْ حَبِيبَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيِّ، وَبِالْقَرْيَتَيْنِ: مَكَّةَ وَالطَّائِفَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهِ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَابْنَ عَبْدِ يَالَيْلَ، مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} قَالَ عَتَبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَابْنُ عَبْدِ يَالَيْلَ الثَّقَفِيُّ مِنِ الطَّائِفِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغَيَّرَةِ، وَمِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ: ابْنَ مَسْعُودٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} قَالَ: الرَّجُلُ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَالَ: لَوْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حُقًّا أُنْزِلَ عَلِيَّ هَذَا، أَوْ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ، وَالْقَرْيَتَانِ: الطَّائِفُ وَمَكَّةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ مِنِ الطَّائِفِ اسْمُهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} وَالْقَرْيَتَانِ: مَكَّةُ وَالطَّائِفُ؛ قَالَ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فَخْذٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا قَدِ ادَّعَتْهُ، وَقَالُوا: هُوَ مِنَّا، فَكُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعُرْوَةُ الثَّقَفِيُّ أَبُو مَسْعُودٍ، يَقُولُونَ: هَلَّا كَانَ أُنْزِلَ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} قَالَ: كَانَ أَحَدُ الْعَظِيمَيْنِ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ، كَانَ عَظِيمَ أَهْلِ الطَّائِفِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَمِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ: كِنَانَةَ بْنَ عَبْدِ بْنِ عَمْرٍو.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} قَالَ: الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْقُرَشِيِّ، وَكِنَانَةِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، عَظِيمِ أَهْلِ الطَّائِفِ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، مُخْبِرًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} إِذْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ بَعْضَ هَؤُلَاءِ، وَلَمْ يَضَعِ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَنَا الدَّلَالَةَ عَلَى الَّذِينَ عُنُوا مِنْهُمْ فِي كِتَابِهِ، وَلَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ مَوْجُودٌ عَلَى مَا بَيَّنْتُ. وَقَوْلُهُ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ: لَوْ لَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يَا مُحَمَّدُ، يُقَسِّمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ بَيْنَ خَلْقِهِ، فَيَجْعَلُونَ كَرَامَتَهُ لِمَنْ شَاءُوا، وَفَضَّلَهُ لِمَنْ أَرَادُوا، أَمِ اللَّهُ الَّذِي يُقَسِّمُ ذَلِكَ، فَيُعْطِيهِ مَنْ أُحِبُّ، وَيَحْرِمُهُ مَنْ شَاءَ؟. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُوكُرَيْبٍقَالَ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: ثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا رَسُولًا أَنْكَرَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ، وَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا مِثْلَ مُحَمَّدٍ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} وَقَالَ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} يَعْنِي: أَهْلَ الْكُتُبِ الْمَاضِيَةِ، أَبَشَرًا كَانَتِ الرُّسُلُ الَّتِي أَتَتْكُمْ أَمْ مَلَائِكَةً؟ فَإِنْ كَانُوا مَلَائِكَةً أَتَتْكُمْ، وَإِنْ كَانُوا بَشَرًا فَلَا تُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ رَسُولًا قَالَ: ثُمَّ قَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} أَيْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا قُلْتُمْ؛ قَالَ: فَلَمَّا كَرَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ قَالُوا، وَإِذَا كَانَ بَشَرًا فَغَيْرَ مُحَمَّدٍ كَانَ أَحَقَّ بِالرِّسَالَةِ فَ {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يَقُولُونَ: أَشْرَفُ مِنْ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَعْنَوْنَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ، وَكَانَ يُسَمَّى رَيْحَانَةَ قُرَيْشٍ، هَذَا مِنْ مَكَّةَ، وَمَسْعُودَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ مِنْ أَهْلِ الطَّائِِفِ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَدًّا عَلَيْهِمْ {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} أَنَا أَفْعَلُ مَا شِئْتُ. وَقَوْلُهُ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: بَلْ نَحْنُ نُقَسِّمُ رَحْمَتَنَا وَكَرَامَتَنَا بَيْنَ مَنْ شِئْنَا مَنْ خَلَقِنَا، فَنَجْعَلُ مَنْ شِئْنَا رَسُولًا وَمَنْ أَرَدْنَا صَدِيقًا، وَنَتَّخِذُ مَنْ أَرَدْنَا خَلِيلًا كَمَا قَسَّمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمُ الَّتِي يَعِيشُونَ بِهَا فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْأَقْوَاتِ، فَجَعَلْنَا بَعْضَهُمْ فِيهَا أَرْفَعَ مِنْ بَعْضٍ دَرَجَةً، بَلْ جَعَلْنَا هَذَا غَنِيًّا، وَهَذَا فَقِيرًا، وَهَذَا مَلِكًا، وَهَذَا مَمْلُوكًا {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فَتَلَقَّاهُ ضَعِيفُ الْحِيلَةِ، عَيُّ اللِّسَانِ، وَهُوَ مَبْسُوطٌ لَهُ فِي الرِّزْقِ، وَتَلَقَّاهُ شَدِيدُ الْحِيلَةِ، سَلِيطُ اللِّسَانِ، وَهُوَ مَقْتُورٌ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} كَمَا قَسَّمَ بَيْنَهُمْ صُوَرَهُمْ وَأَخْلَاقَهُمْ تَبَارَكَ رَبُّنَا وَتَعَالَى. وَقَوْلُهُ: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} يَقُولُ: لِيَسْتَسْخِرَ هَذَا هَذَا فِي خِدْمَتِهِ إِيَّاهُ، وَفِي عَوْدِ هَذَا عَلَى هَذَا بِمَا فِي يَدَيْهِ مِنْ فَضْلٍ، يَقُولُ: جَعَلَ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- بَعْضًا لِبَعْضٍ سَبَبًا فَى الْمَعَاشِ، فِي الدُّنْيَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَا عَنَى بِقَوْلِهِ: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ مَا قُلْنَا فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} قَالَ: يَسْتَخْدِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي السُّخْرَةِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} قَالَ: هُمْ بَنُو آدَمَ جَمِيعًا، قَالَ: وَهَذَا عَبَدَ هَذَا، وَرَفَعَ هَذَا عَلَى هَذَا دَرَجَةً، فَهُوَ يُسَخِّرُهُ بِالْعَمَلِ، يَسْتَعْمِلُهُ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: سَخَّرَ فَلَانٌ فَلَانًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ: لِيَمْلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ: ثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} يَعْنِي بِذَلِكَ: الْعَبِيدَ وَالْخَدَمَ سُخِّرَ لَهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} مَلَكَهُ. وَقَوْلُهُ: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَرَحْمَةُ رَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ بِإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَجْمَعُونَ مِنَ الْأَمْوَالِ فِي الدُّنْيَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} يَعْنِي الْجَنَّةَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ} يَقُولُ: الْجَنَّةُ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ فِي الدُّنْيَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً}: جَمَاعَةً وَاحِدَةً. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لَمْ يُؤْمَنُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَيْهِ، لَوْ فَعَلَ مَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَمَا بِهِ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ أَجْلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ: مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَوْ لَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْكُفْرِ، فَيَصِيرَ جَمِيعُهُمْ كَفَّارًا {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ}. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: لَوْ لَا أَنْ أَجْعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ كُفَّارًا، لَجَعَلْتُ لِلْكُفَّارِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا هَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ قَالَ: ثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ: لَوْ لَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كُفَّارًا أَجْمَعُونَ، يَمِيلُونَ إِلَى الدُّنْيَا، لَجَعَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الَّذِي قَالَ، تَمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ مَالَتِ الدُّنْيَا بِأَكْثَرِ أَهْلِهَا، وَمَا فَعَلَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ لَوْ فَعَلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}: أَيْ كُفَّارًا كُلُّهُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ: لَوْ لَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كُفَّارًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ. ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} يَقُولُ: كُفَّارًا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَتَرْكِ طَلَبِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ: مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَوْ لَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَرَفْضِ الْآخِرَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ: لَوْ لَا أَنْ يَخْتَارَ النَّاسُ دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، لَجَعَلْنَا هَذَا لَأَهْلِ الْكَفْرِ. وَقَوْلُهُ: {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: لِجَعْلِنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ فَى الدُّنْيَا سُقُفًا، يَعْنِي أَعَالِيَ بُيُوتِهِمْ، وَهِيَ السُّطُوحُ فِضَّةً كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} السُقُفُ: أَعْلَى الْبُيُوتِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فَى تَكْرِيرِ اللَّامِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {لِمَنْ يَكْفُرُ} وَفِي قَوْلِهِ: (لِبُيُوتِهِمْ)، فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ يَزْعُمُ أَنَّهَا أُدْخِلَتْ فِي الْبُيُوتِ عَلَى الْبَدَلِ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: إِنْ شِئْتَ حَمْلَتَهَا فِي (لِبُيُوتِهِمْ) مُكَرَّرَةً، كَمَا فِي {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ اللَّامَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، كَأَنَّ الثَّانِيَةَ فِي مَعْنَى عَلَى، كَأَنَّهُ قَالَ: جَعَلْنَا لَهُمْ عَلَى بُيُوتِهِمْ سُقُفًا. قَالَ: وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ: جَعَلْتُ لَكَ لِقَوْمِكَ الْأُعْطِيَّةَ: أَيْ جَعَلْتُهُ مِنْ أَجْلِكَ لَهُمْ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: "سُقُفًا" فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ وَعَامَّةُ الْبَصْرِيِّينَ (سَقْفًا) بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ اعْتِبَارًا مِنْهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} وَتَوْجِيهًا مِنْهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ بِلَفْظِ وَاحِدٍ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ (سُقُفًا) بِضَمِّ السِّينِ وَالْقَافِ، وَوَجَّهُوهَا إِلَى أَنَّهَا جَمْعُ سَقِيفَةٍ أَوْ سُقُوفٍ. وَإِذَا وُجِّهَتْ إِلَى أَنَّهَا جَمْعُ سُقُوفٍ كَانَتْ جَمْعَ الْجَمْعِ، لِأَنَّ السُّقُوفَ: جَمْعُ سَقْفٍ، ثُمَّ تُجْمَعُ السُّقُوفُ سُقُفًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَظِيرَ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ"فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ" بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْهَاءِ، وَهِيَ الْجُمَعُ، وَاحِدُهَا رِهَانٌ وَرُهُونٌ، وَوَاحِدُ الرُّهُونِ وَالرِّهَانِ: رَهْنٌ. وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ"كُلُوا مِنْ ثُمُرِهِ" بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ، وَنَظِيرَ قَوْلِ الرَّاجِزِ؟ حَتَّى إِذَا ابْتَلَّتْ حَلَاقِيمُ الْحُلُقْ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ السُّقُفَ بِضَمِّ السِّينِ وَالْقَافِ جَمْعُ سَقْفٍ، وَالرُّهُنَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْهَاءِ جَمْعُ رَهْنٍ، فَأُغْفِلَ وَجْهُ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اسْمٌ عَلَى تَقْدِيرِ فَعْلٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ مَجْمُوعًا عَلَى فِعْلٍ، فَيَجْعَلُ السُّقُفَ وَالرُّهُنَ مِثْلَهُ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، مَعْرُوفَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقَوْلُهُ: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} يَقُولُ: وَمَرَاقِي وَدُرُجًا عَلَيْهَا يَصْعَدُونَ، فَيَظْهَرُونَ عَلَى السُقُفِِ وَالْمَعَارِجِ: هِيَ الدُّرُجُ نَفْسُهَا، كَمَا قَالَ الْمُثَنَّى بْنُ جَنْدَلٍ؟ يَا رَبِّ رَبَّ الْبَيْتِ ذِي الْمَعَارِجِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (وَمَعَارِجَ) قَالَ: مَعَارِجُ مِنْ فِضَّةِ، وَهِيَ دُرُجٌ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}: أَيْ دُرُجًا عَلَيْهَا يَصْعَدُونَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} قَالَ: الْمَعَارِجُ: الْمَرَاقِي. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} قَالَ: دُرُجٌ عَلَيْهَا يَرْفَعُونَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} قَالَ: دُرُجٌ عَلَيْهَا يَصْعَدُونَ إِلَى الْغُرَفِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} قَالَ: الْمَعَارِجُ: دُرُجٌ مِنْ فِضَّةٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَجَعَلَنَا لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا مِنْ فِضَّةٍ، وَسُرُرًا مِنْ فِضَّةٍ. كَمَا حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسُرُرًا قَالَ: سُرُرَ فِضَّةٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فَى قَوْلِهِ: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} قَالَ: الْأَبْوَابُ مِنْ فِضَّةٍ، وَالسُّرُرُ مِنْ فِضَّةٍ عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ، يَقُولُ: عَلَى السُّرُرِ يَتَّكِئُونَ. وَقَوْلُهُ: {وَزُخْرُفًا} يَقُولُ: وَلَجَعَلْنَا لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ زُخْرُفًا، وَهُوَ الذَّهَبُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَزُخْرُفًا} وَهُوَ الذَّهَبُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَزُخْرُفًا} قَالَ: الذَّهَبُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ، قَالَ: ذَهَبَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَزُخْرُفًا} الزُّخْرُفُ: الذَّهَبُ، قَالَ: قَدْ وَاللَّهِ كَانَتْ تُكْرَهُ ثِيَابُ الشُّهْرَةِ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ: " «إِيَّاكُمْ وَالْحُمْرَةَ فَإِنَّهَا مِنْ أَحَبِّ الزِّينَةِ إِلَى الشَّيْطَان» ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَزُخْرُفًا} قَالَ: الذَّهَبُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَزُخْرُفًا} قَالَ: الذَّهَبُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَزُخْرُفًا} لَجَعَلْنَا هَذَا لِأَهْلِ الْكُفْرِ، يَعْنِي لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا. وَالزُّخْرُفُ سُمِّيَ هَذَا الَّذِي سُمِّيَ السُقُفُ، وَالْمَعَارِجُ وَالْأَبْوَابُ وَالسُّرُرُ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْفَرْشِ وَالْمَتَاعِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَزُخْرُفًا} يَقُولُ: ذَهَبًا. وَالزُّخْرُفُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ: هَذَا هُوَ مَا تَتَّخِذُهُ النَّاسُ مِنْ مَنَازِلِهِمْ مِنَ الْفَرْشِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْآلَاتِ. وَفِي نَصْبِ الزُّخْرُفِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمِنْ زُخْرِفٍ، فَلَمَّا لَمَّ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ مِنْ نُصِبَ عَلَى إِعْمَالِ الْفِعْلِ فِيهِ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى فِيهِ: فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَزُخْرُفًا يُجْعَلُ ذَلِكَ لَهُمْ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى السُّرُرِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: لَجَعَلْنَا لَهُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ فِضَّةٍ، وَجَعَلَنَا لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ ذَهَبًا يَكُونُ لَهُمْ غَنًّى يَسْتَغْنُونَ بِهَا، وَلَوْ كَانَ التَّنْزِيلُ جَاءَ بِخَفْضِ الزُّخْرُفِ لَكَانَ: لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَنْ زُخْرُفٍ، فَكَانَ الزُّخْرُفُ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْفِضَّةِ. وَأَمَّا الْمَعَارِجُ فَإِنَّهَا جُمِعَتْ عَلَى مَفَاعِلَ، وَوَاحِدُهَا مِعْرَاجٌ، عَلَى جَمْعِ مَعْرَجٍ، كَمَا يُجْمَعُ الْمِفْتَاحُ مَفَاتِحَ عَلَى جَمْعِ مَفَتَحٍ، لِأَنَّهُمَا لُغَتَانِ: مَعْرَجٍ، وَمَفْتَحٍ، وَلَوْ جُمِعَ مَعَارِيجُ كَانَ صَوَابًا، كَمَا يُجْمَعُ الْمِفْتَاحُ مَفَاتِيحُ، إِذْ كَانَ وَاحِدُهُ مِعْرَاجٌ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَمَا كَلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْتُ مِنَ السُقُفِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالْمَعَارِجِ وَالْأَبْوَابِ وَالسُّرُرِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالزُّخْرُفِ، إِلَّا مَتَاعٌ يَسْتَمْتِعُ بِهِ أَهْلُ الدُّنْيَا فِي الدُّنْيَا. {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَزَيَّنَ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَبَهَاؤَهَا عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ فَخَافُوا عِقَابَهُ، فَجَدُّوا فِي طَاعَتِهِ، وَحَذَرُوا مَعَاصِيَهُ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} خُصُوصًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَلَمْ يَخَفْ سَطْوَتَهُ، وَلَمْ يَخْشَ عِقَابَهُ {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} يَقُولُ: نَجْعَلْ لَهُ شَيْطَانًا يُغْوِيهِ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ: يَقُولُ: فَهُوَ لِلشَّيْطَانِ قَرِينٌ، أَيْ يَصِيرُ كَذَلِكَ، وَأَصْلُ الْعَشْوُ: النَّظَرُ بِغَيْرِ ثَبْتٍ لِعِلَّةٍ فِي الْعَيْنِ، يُقَالُ مِنْهُ: عَشَا فَلَانٌ يَعْشُو عَشْوًا وَعُشُوًّا: إِذَا ضَعُفَ بَصَرُهُ، وَأَظْلَمَتْ عَيْنُهُ، كَأَنَّ عَلَيْهِ غِشَاوَةٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ؟ مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ *** تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا يَعْنِي: مَتَى تَفْتَقِرُ فَتَأْتِهِ يُعِنْكَ. وَأَمَّا إِذَا ذَهَبَ الْبَصَرُ وَلَمْ يُبْصِرْ، فَإِنَّهُ يُقَالُ فِيهِ: عَشِيَ فَلَانٌ يَعْشَى عَشًى مَنْقُوصٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى؟ رَأَتْ رَجُلًا غَائِبَ الْوَافِدَيْنِ *** مُخْتَلِفَ الْخَلْقِ أَعْشَى ضَرِيرًا يُقَالُ مِنْهُ: رَجُلٌ أَعْشَى وَامْرَأَةٌ عَشْوَاءُ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَنْ لَا يَنْظُرُ فِي حُجَجِ اللَّهِ بِالْإِعْرَاضِ مِنْهُ عَنْهُ إِلَّا نَظَرًا ضَعِيفًا، كَنَظَرِ مَنْ قَدْ عَشِيَ بَصَرُهُ {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا}. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} يَقُولُ: إِذَا أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ نَقِيضُ لَهُ شَيْطَانًا {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} قَالَ: يَعْرِضْ. وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى. وَمَنْ يَعْمَ، وَمَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَيُحِبُّ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُ {وَمَنْ يَعْشَ} بِفَتْحِ الشِّينِ عَلَى مَا بَيَّنْتُ قِيلَ. ذِكْرُ مَنْ تَأَوَّلَهُ كَذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} قَالَ: مَنْ يَعْمَ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لِيَصُدُّونِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْشُونَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ، فَيُزَيِّنُونَ لَهُمُ الضَّلَالَةَ، وَيَكْرِّهُونَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} يَقُولُ: وَيَظُنُّ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ بِتَحْسِينِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، يُخْبِرُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مِنَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ عَلَى شَكٍّ وَعَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ. وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} فَأَخْرَجَ ذِكْرُهُمْ مَخْرَجَ ذَكَرِ الْجَمِيعِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ قَبْلَ وَاحِدًا، فَقَالَ: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} لِأَنَّ الشَّيْطَانَ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ وَاحِدًا، فَفِي مَعْنَى جَمْعٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ سِوَى ابْنِ مُحَيْصُنٍ، وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ وَبَعْضِ الشَّامِيِّينَ"حَتَّى إِذَا جَاءَنَا" عَلَى التَّوْحِيدِ بِمَعْنَى: حَتَّى إِذَا جَاءَنَا هَذَا الَّذِي عَشِيَ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَقَرِينُهُ الَّذِي قُيِّضَ لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} عَلَى التَّوْحِيدِ، بِمَعْنَى: حَتَّى إِذَا جَاءَنَا هَذَا الْعَاشِي مِنْ بَنِي آدَمَ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى وَذَلِكَ أَنَّ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ حَالِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عِنْدَ مَقْدِمِهِ عَلَيْهِ فِيمَا أَقَرَّنَا فِيهِ فِي الدُّنْيَا، الْكِفَايَةُ لِلسَّامِعِ عَنْ خَبَرِ الْآخَرِ، إِذْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ حَالِ أَحَدِهِمَا مَعْلُومًا بِهِ خَبَرُ حَالِ الْآخَرِ، وَهُمَا مَعَ ذَلِكَ قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: حَتَّى إِذَا جَاءَنَا هُوَ وَقَرِينُهُ جَمِيعًا. وَقَوْلُهُ: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: قَالَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ لِصَاحِبِهِ الْآخَرِ: وَدِدْتُ أَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ: أَىْ بُعْدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَغَلَبَ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، كَمَا قِيلَ: شِبْهُ الْقَمَرَيْنِ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ؟ أَخَذْنَا بِآفَاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمُ *** لَنَا قَمَرَاهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُ وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ؟ فَبَصْرَةُ الْأَزْدِ مِنَّا وَالْعِرَاقُ لَنَا *** وَالْمَوْصِلَانِ وَمِنَّا مِصْرُ وَالْحَرَمُ يَعْنِي: الْمَوْصِلُ وَالْجَزِيرَةُ، فَقَالَ: الْمَوْصِلَانِ، فَغَلَّبَ الْمَوْصِلَ. وَقَدْ قِيلَ: عَنَى بِقَوْلِهِ {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ}: مَشْرِقَ الشِّتَاءِ، وَمُشْرِقَ الصَّيْفِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ فِي الشِّتَاءِ مِنْ مَشْرِقٍ، وَفِي الصَّيْفِ مِنْ مَشْرِقٍ غَيْرِهِ؛ وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ تَغْرُبُ فِي مُغْرِبِينَ مُخْتَلِفِينَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}. وَذُكِرَ أَنَّ هَذَا قَوْلَ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ عِنْدَ لُزُومِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ حَتَّى يُورِدَهُ جَهَنَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قَبْرِهِ، سَفَعَ بِيَدِهِ الشَّيْطَانَ، فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى يُصَيِّرَهُمَا اللَّهُ إِلَى النَّارِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ، فَبِئْسَ الْقَرِينُ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُوَكَّلُ بِهِ مَلَكٌ فَهُوَ مَعَهُ حَتَّى قَالَ: إِمَّا يُفْصَلُ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ نَصِيرُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ} أَيُّهَا الْعَاشُونَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا {إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} يَقُولُ: لَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمُ الْيَوْمَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ اشْتِرَاكُكُمْ فِيهِ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ نَصِيبَهُ مِنْهُ، وَ"أَنَّ" مِنْ قَوْلِهِ (أَنَّكُمْ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِمَا ذَكَرْتُ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ اشْتِرَاكُكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ}: مَنْ قَدْ سَلَبَهُ اللَّهُ اسْتِمَاعَ حُجَجِهِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ فَأَصَمَّهُ عَنْهُ، أَوْ تَهْدِي إِلَى طَرِيقِ الْهُدَى مَنْ أَعْمَى اللَّهُ قَلَبَهُ عَنْ إِبْصَارِهِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، فَزَيَّنَ لَهُ الرَّدَى {وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} يَقُولُ: أَوْ تَهْدِي مَنْ كَانَ فِي جَوْرٍ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، سَالِكٌ غَيْرَ سَبِيلِ الْحَقِّ، قَدْ أَبَانَ ضَلَالُهُ أَنَّهُ عَنِ الْحَقِّ زَائِلٌ، وَعَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ جَائِرٌ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكَ، إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ الَّذِي بِيَدِهِ صَرْفُ قُلُوبِ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ، فَبَلِّغْهُمُ النِّذَارَةَ. وَقَوْلُهُ: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ بِهَذَا الْوَعِيدِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ أَهْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ أُمَّةِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا سَوَارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} قَالَ: لَقَدْ كَانَتْ بَعْدَ نَبِيِّ اللَّهِ نِقْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَكْرَمَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرِيَهُ فِي أُمَّتِهِ مَا كَانَ مِنَ النِّقْمَةِ بَعْدَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} فَذَهَبَ اللَّهُ بِنَبِيِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَمْ يُرَ فِي أُمَّتِهِ إِلَّا الَّذِي تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ، وَأَبْقَى اللَّهُ النِّقْمَةَ بَعْدَهُ، وَلَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَأَى فِي أُمَّتِهِ الْعُقُوبَةَ، أَوْ قَالَ مَا لَا يَشْتَهِي. ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرِيَ الَّذِي لَقِيَتْ أُمَّتُهُ بَعْدَهُ، فَمَا زَالَ مُنْقَبِضًا مَا انْبَسَطَ ضَاحِكًا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} فَقَالَ: ذَهَبَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَقِيَتِ النِّقْمَةُ، وَلَمْ يُرِ اللَّهُ نَبِيَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أُمَّتِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ حَتَّى مَضَى، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَطُّ إِلَّا رَأَى الْعُقُوبَةَ فِي أُمَّتِهِ، إِلَّا نَبِيَّكُمْ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرِيَ مَا يُصِيبُ أُمَّتَهُ بَعْدَهُ، فَمَا رُئِيَ ضَاحِكًا مُنْبَسِطًا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهِ أَهْلَ الشِّرْكِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَالُوا: قَدْ أَرَى اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} كَمَا انْتَقَمْنَا مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} فَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ وَأَظْهَرَهُ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ خَبَرِ اللَّهِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَلِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَهْدِيدًا لَهُمْ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا لِمَنْ لَمْ يَجُرْ لَهُ ذِكْرٌ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: فَإِنْ نَذْهَبْ بِكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَنُخْرِجْكَ مِنْ بَيْنِهِمْ {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ}، كَمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا. {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} يَا مُحَمَّدُ مِنَ الظَّفَرِ بِهِمْ، وَإِعْلَائِكَ عَلَيْهِمْ {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} أَنْ نُظْهِرَكَ عَلَيْهِمْ، وَنُخْزِيَهُمْ بِيَدِكَ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَتَمَسَّكَ يَا مُحَمَّدُ بِمَا يَأْمُرُكَ بِهِ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أَوْحَاهُ إِلَيْكَ رَبُّكَ، {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَمِنْهَاجٍ سَدِيدٍ، وَذَلِكَ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: أَيِ الْإِسْلَامِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ الَّذِي أَمَرْنَاكَ أَنْ تَسْتَمْسِكَ بِهِ لَشَرَفٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} يَقُولُ: وَسَوْفَ يَسْأَلُكَ رَبُّكَ وَإِيَّاهُمْ عَمَّا عَمِلْتُمْ فِيهِ، وَهَلْ عَمِلْتُمْ بِمَا أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ فِيهِ، وَانْتَهَيْتُمْ عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ فِيهِ؟. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ شَرَفٌ لَكَ. حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} قَالَ: يَقُولُ لِلرَّجُلِ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: مِنَ الْعَرَبِ، فَيُقَالُ: مِنْ أَيِّ الْعَرَبِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ قُرَيْشٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} قَالَ: شَرَفٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، يَعْنِي الْقُرْآنَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} قَالَ: أَوْلَمَ تَكُنِ النُّبُوَّةُ وَالْقُرْآنُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذِكْرًا لَهُ وَلِقَوْمِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} وَمَنِ الَّذِينَ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَسْأَلَتِهِمْ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ الَّذِينَ أُمِرَ بِمَسْأَلَتِهِمْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ: التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ "وَاسْأَلِ الَّذِينَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ رُسُلَنَ ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} إِنَّهَا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: "سَلِ الَّذِينَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ رُسُلَنَا". حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} يَقُولُ: سَلْ أَهْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: هَلْ جَاءَتْهُمْ الرُّسُلُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ؟ قَالَ: وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ: "وَاسْأَلِ الَّذِينَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلَنَا قَبْلَكَ". {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ"وَاسْأَلِ الَّذِينَ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا" سَلْ أَهْلَ الْكِتَابِ: أَمَا كَانَتِ الرُّسُلُ تَأْتِيهِمْ بِالتَّوْحِيدِ؟ أَمَا كَانَتْ تَأْتِي بِالْإِخْلَاصِ؟. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: فِي قَوْلِهِ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ "سَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ" يَعْنِي: مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الَّذِينَ أُمِرَ بِمَسْأَلَتِهِمْ ذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ جُمِعُوا لَهُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ}... الْآيَةَ، قَالَ: جُمِعُوا لَهُ لَيْلَةَ أُسَرِي بِهِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَمَّهُمْ، وَصَلَّى بِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: سَلْهُمْ، قَالَ: فَكَانَ أَشَدَّ إِيمَانًا وَيَقِينًا بِاللَّهِ وَبِمَا جَاءَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَسْأَلَهُمْ، وَقَرَأَ {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ فَى شَكٍّ، وَلَمْ يَسْأَلِ الْأَنْبِيَاءَ، وَلَا الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ. قَالَ: وَنَادَى جِبْرَائِيلُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: "الْآنَ يَؤُمُّنَا أَبُونَا إِبْرَاهِيمُ "؛ قَالَ: "فَدَفَعَ جِبْرَائِيلُ فِي ظَهْرِي"، قَالَ: تَقَدَّمْ يَا مُحَمَّدُ فَصَلِّ، وَقَرَأَ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}... حَتَّى بَلَغَ {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِهِ: سَلْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: سَلِ الرُّسُلَ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: سَلْ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ وَبِكِتَابِهِمْ؟ قِيلَ: جَازَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ وَبِكُتُبِهِمْ أَهْلُ بَلَاغٍ عَنْهُمْ مَا أَتَوْهُمْ بِهِ عَنْ رَبِّهِمْ، فَالْخَبَرُ عَنْهُمْ وَعَمَّا جَاءُوا بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ إِذَا صَحَّ بِمَعْنَى خَبِّرْهُمْ، وَالْمَسْأَلَةُ عَمَّا جَاءُوا بِهِ بِمَعْنَى مَسْأَلَتِهِمْ إِذَا كَانَ الْمَسْئُولُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِمْ وَالصِّدْقِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ نَظِيرُ أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِيَّانَا بِرَدِّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ، يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: فَرُدُّوهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسَنَةِ رَسُولِهِ، لِأَنَّ الرَّدَّ إِلَى ذَلِكَ رَدٌّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} إِنَّمَا مَعْنَاهُ: فَاسْأَلْ كُتُبَ الَّذِينَ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنَ الرُّسُلِ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ صِحَّةَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِنَا، فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الرُّسُلِ مِنْ ذِكْرِ الْكُتُبَ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا مَا مَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} يَقُولُ: أَمَرْنَاهُمْ بِعِبَادَةِ الْآلِهَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِيمَا جَاءُوهُمْ بِهِ، أَوْ أَتَوْهُمْ بِالْأَمْرِ بِذَلِكَ مِنْ عِنْدِنَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}؟ أَتَتْهُمُ الرُّسُلُ يَأْمُرُونَهُمْ بِعِبَادَةِ الْآلِهَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ وَقِيلَ: {آلِهَةً يُعْبَدُونَ}، فَأَخْرَجَ الْخَبَرَ عَنِ الْآلِهَةِ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنْ ذُكُورِ بَنِي آدَمَ، وَلَمْ يَقُلْ: تَعْبُدُ، وَلَا يَعْبُدْنَ، فَتُؤَنَّثُ وَهِيَ حِجَارَةٌ، أَوْ بَعْضُ الْجَمَادِ كَمَا يُفْعَلُ فِي الْخَبَرِ عَنْ بَعْضِ الْجَمَادِ. وَإِنَّمَا فُعِلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، إِذْ كَانَتْ تُعْبَدُ وَتُعَظَّمُ تَعْظِيمَ النَّاسِ مُلُوكَهُمْ وَسَرَاتِهِمْ، فَأُجْرِيَ الْخَبَرُ عَنْهَا مَجْرَى الْخَبَرِ عَنِ الْمُلُوكِ وَالْأَشْرَافِ مِنْ بَنِي آدَمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا يَا مُحَمَّدُ مُوسَى بِحُجَجِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْرَافِ قَوْمِهِ، كَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَمَا قُلْتَ أَنْتَ لِقَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ. إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} يَقُولُ: فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ بِحُجَجِنَا وَأَدِلَّتِنَا عَلَى صِدْقِ قَوْلِهِ، فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْ عِبَادَةِ الْآلِهَةِ، إِذَا فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ يَضْحَكُونَ؛ كَمَا أَنَّ قَوْمَكَ مِمَّا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ يَسْخَرُونَ، وَهَذَا تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمَّا كَانَ يَلْقَى مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ، وَإِعْلَامٌ مِنْهُ لَهُ، أَنَّ قَوْمَهُ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ لَنْ يَعْدُوَ أَنْ يَكُونُوا كَسَائِرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مِنْهَاجِهِمْ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، وَنَدْبٌ مِنْهُ نَبِيَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الِاسْتِنَانِ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهِمْ بِسُنَنِ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَإِخْبَارٌ مِنْهُ لَهُ أَنَّ عُقْبَى مَرَدَتِهِمْ إِلَى الْبَوَارِ وَالْهَلَاكِ كَسُنَّتِهِ فِي الْمُتَمَرِّدِينَ عَلَيْهِ قَبْلَهُمْ، وَإِظْفَارِهِ بِهِمْ، وَإِعْلَائِهِ أَمْرَهُ، كَالَّذِي فُعِلَ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَوْمِهِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ مِنْ إِظْهَارِهِمْ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَمَا نُرِي فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ آيَةً، يَعْنِي: حَجَّتَهُ لَنَا عَلَيْهِ بِحَقِيقَةِ مَا يَدْعُوهُ إِلَيْهِ رَسُولُنَا مُوسَى {إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} يَقُولُ: إِلَّا الَّتِي نُرِيهِ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمُ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَأَوْكَدُ مِنَ الَّتِي مَضَتْ قَبْلَهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَأَدَلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ مُوسَى مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} يَقُولُ: وَأَنْزَلْنَا بِهِمُ الْعَذَابَ، وَذَلِكَ كَأَخْذِهِ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- إِيَّاهُمْ بِالسِّنِينَ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ، وَبِالْجَرَادِ، وَالْقُمَّلِ، وَالضَّفَادِعِ، وَالدَّمِ. وَقَوْلُهُ: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يَقُولُ: لِيَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، وَالتَّوْبَةِ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ مَعَاصِيهِمْ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أَيْ يَتُوبُونَ، أَوْ يَذْكُرُونَ.
|